مع أني لم ألتق بوزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إلا مرة واحدة حين دعيت إلى حفل عشاء بوزارة الخارجية، حيث كان الوزير حريصاً على الإصغاء بعناية إلى خبراء السياسة الخارجية، فإنه مع ذلك تولد لدي انطباع عن الرجل بأنه ربما يكون من أكثر وزراء الخارجية الأميركيين ثقة بنفسه وبقدرته على اجتراح الحلول، رغم الصعوبات والعراقيل. هذا الإحساس الطاغي بالثقة هو ما يميز دبلوماسية كيري حتى الآن، فبالنسبة له لا وجود لمشكلة كبيرة لا يمكن التعاطي معها، وحتى لو انتهت المقاربات بالفشل، فذلك بالنسبة له أفضل من عدم المحاولة. وحسب رأيه، لو أُعطي ما يكفي من الوقت والتركيز، بالإضافة إلى الإرادة والمهارة، فلابد من وجود حل. والحقيقة أنه فقط رجل من هذه القماشة يستطيع المغامرة بالانخراط في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، رغم العراقيل الكثيرة، والإصرار على إنجاح مؤتمر جنيف 2 لإنهاء الحرب الأهلية بسوريا، رغم الآمال الضئيلة. والأكثر من ذلك، الإلقاء بثقله وراء اتفاق نووي مع إيران يعارضه حلفاء أميركا، وعلى رأسهم إسرائيل، والكونجرس أيضاً. وإذا كان من المبكر إصدار حكم على سجل كيري في وزارة الخارجية، فليس أقله استكشاف التوجهات الكبرى لسياسته والصعوبات التي يواجهها، ثم العوامل التي من الممكن أن تجعل منه، لو توافرت، أحد أبرز وزراء الخارجية الأميركيين. ومن خلال عملي الممتد مع وزراء خارجية سابقين، أستطيع الإشارة إلى خمسة عناصر أساسية تحتاجها الدبلوماسية الأميركية للنجاح. وأول تلك العناصر مدى توافر الفرصة المناسبة، إذ لا يهم ما إذا كان وزير الخارجية ماهراً في عمله، أم منخرطاً بحماس في القضايا المطروحة، فبدون تعاون العالم لا جني للثمار ولا نتائج جيدة، بل يصبح من المستحيل تحقيق النجاح في السياسة الخارجية. ذلك أن التفاعل المستمر بين العمل الإنساني من جهة والظروف الموضوعية من جهة أخرى هو ما يحدد ماذا سيجري على الساحة الدولية. ففكرة أن وزراء الخارجية يجترحون نجاحاتهم الخاصة بمعزل عن الإمكانات الواقعية والظروف الموضوعية، فكرة لا تستقيم. فرغم كل براعة كيسنجر ومهارته التفاوضية، لم يكن ليحقق إنجازاته الدبلوماسية لولا حرب أكتوبر 1973 التي مهّدت الطريق للتوقيع على ثلاث اتفاقيات بين العرب وإسرائيل في غضون 18 شهراً. وما كان لجورج شولتز ورنالد ريجان إبرام اتفاقيات للحد من التسلح مع الاتحاد السوفييتي لو لم يكن هذا الأخير على وشك الانهيار. وبدون غزو صدام للكويت، ما كان جيمس بيكر قادراً على جر العرب والإسرائيليين إلى مؤتمر مدريد. فهل توجد فرص مماثلة في عالم اليوم يستطيع كيري استغلالها؟ الحقيقة أنه رغم حالة السيولة السائدة حالياً في الشرق الأوسط، فإنها لا ترقى للفرص الحقيقية الكفيلة بإنتاج إنجاز دبلوماسي. فنجاح أميركي على الجبهة الإيرانية من خلال التوصل إلى اتفاق نووي مع طهران، سيعقد الوضع على صعيد المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية. لكن رغم تعقيدات الوضع في الشرق الأوسط تبقى نجاحات السياسة الخارجية الأميركية مرهونة أيضاً بالانخراط في قضاياه، باعتباره العنصر الثاني في معادلة الإنجاز الدبلوماسي، إذ لا يمكن حل الإشكالات الكبرى من خلال الاكتفاء بدور المتفرج، وهو ما يبدو أن كيري مدرك له، فهو منخرط في أكثر من موضوع بدءاً من التفاوض مع الحكومة الأفغانية حول اتفاقية أمنية، مروراً بالتعاون مع روسيا لوضع إطار يقود إلى تدمير السلاح الكيماوي السوري، وليس انتهاء بمساعي التوافق مع إيران حول برنامجها النووي، وإطلاق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. لكن يبقى أن نتساءل عن وجود شركاء حقيقيين في المنطقة، بدونهم يغيب العنصر الثالث في نجاح وزير الخارجية الأميركي. فقد اعتمد كارتر وكيسنجر مثلاً على شريك أساسي تمثل في أنور السادات، وتعاون نيكسون وكيسنجر أيضاً مع الرئيس السوفييتي، ليونيد بريجنيف، ونظيره الصيني، ونسق ريجان وشولتز وبوش الأب مع هلموت كول في ألمانيا، وميخائيل جورباتشوف في روسيا... وهو ما يفتقده كيري اليوم الذي يتعامل إما مع أطراف تواجه مصاعب مثل المعارضة السورية المنقسمة، أو الرئيس الفلسطيني عباس، أو مع سياسيين من قبيل نتنياهو وروحاني، عاجزين أو غير مستعدين للتعاون. ثم هناك العنصر الرابع الذي يؤثر في مدى قدرة وزير الخارجية على تحقيق النجاح والمتمثل في وقوف الرئيس الأميركي وراءه، فحتى اللحظة يبدو أن أوباما، المعروف بنزعته التحكمية، قد سمح لكيري بمتابعة الملفات الكبرى للسياسة الخارجية، خلافاً لما كان عليه الوضع مع هيلاري كلينتون، وهو أمر يرجع ربما إلى أن أوباما لم يعد أمامه الكثير من الوقت قبل انتهاء ولايته الثانية، كما أنه بحاجة إلى من يدير القضايا الخارجية. لكن يظل السؤال ما إذا كان أوباما مستعداً للمجازفة في الملفات المطروحة في ظل انشغالاته الداخلية وخلافاته مع الكونجرس. أما العنصر الخامس والأخير في تحديد نجاح كيري، فيتجسد في قدرته على تحقيق إنجاز كبير في السياسة الخارجية. فرغم أن كيري يستطيع الاكتفاء بنجاحات عادية لكي يبقى سجله ناصعاً، فإن الرأي العام ينبهر دائماً بالإنجازات الاستثنائية. والحال أنه في ظل الصعوبات الراهنة التي تواجه أميركا، ورغبة أوباما في تقليص حضوره في الخارج، يبقى من غير المحتمل أن تتاح الفرصة لكيري كي يبرهن عن براعته في هذا المجال، وهو ما يقودنا إلى الخلاصة التي تقول إن المشكلة قد لا تكمن أبداً في كيري نفسه الذي لا تنقصه الإرادة ولا المهارة، بل في مجموعة العناصر آنفة الذكر التي تتواطأ ضده ويمكن إجمالها في وجود بيت أبيض ضعيف وكاره للمغامرة وانشغاله أكثر بالأجندة الداخلية، وغياب شركاء أقوياء يمكن الاعتماد على تعاونهم في الخارج، ثم تعقد المشاكل الخارجية وتشابكها ما يجعل من إمكانية حل إحداها دون تعقيد الأخرى أمراً بالغ الصعوبة، والنتيجة أن حقبة البطولات الدبلوماسية على الطريقة الهوليودية التي كان ينجزها وزراء الخارجية الأميركيين أضحت جزءاً من الماضي. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»